الأربعاء، ١٨ نوفمبر ٢٠٠٩

عقوق - قصة قصيرة




-"ها هو يوم جديد ينتهي"
 

قلتها لنفسي وأنا أخطو خارجأ من مبنى الجريدة التي أعمل بها وقد بلغ مني الجهد مبلغه ولم أكد أرى منظر السماء المتلبدة بالغيوم حتى أدركت أنها على وشك أن تمطر .. فأسرعت الخطى إلى السيارة العتيقة داعيا ألا تخذلني - كالعادة - في مثل هذا الجو الماطر الكئيب ..
انطلقت بالسيارة في شوارع المزدحمة بشدة في وقت الذروة والتي زادها ارتباكا الانهمار الشديد للأمطار .. إلا أنني كتنت شارد الذهن في مشاكل العمل التي لا تنتهي .. وفي حالي الذي لا يرجى له انصلاحا ؛ لم أكن أتوقع وأنا بعد طالبا في كلية الإعلام قسم صحافة أنني وبعد خمسة عشر عاما من العمل المهني الشساق ,, سينتهي بي الحال هكذا . لقد كانت الأحلام تتواثب في صدري وتكاد تذهب بعقلي كل مذهب , فأتصور نفسي أشق طريقي من نجاح إلى نجاح ومن تفوق إلى بريق ... غير أنني ارتطمت بجدار الواقع الصلب.. لم أدر كم مر من الوقت حتى وصلت إلى المبنى الذي أقطن فيه, وبصعوبة أستطعت أن أجد مكانا مناسبا لإيقاف السيارة , وترجلت منها مستحثا الخطى , وأنا أضم ياقتي معطفي قبل أن تغرقني مياه الأمطار.
كان ذلك حينما رأيت هذا المشهد , امرأة عجوز ...محنية الظهر...تخطو في وهن نحو المدخل...والأمطار تنهمر على رأسها وتسيل على تجاعيد وجهها العميقة , وتقطر من جلبابها الأسود, تسمرت في مكاني حين رأيتها , كانت قد وصلت مدخل البناية حين طلبت مني بصوت متعب أن أساعدها في صعود درجات المدخل القليلة,انتفضت من شرودي وهرعت أمد يدي نحوها وأسندها حتى صعدت وجلست على مقعد موجود هناك , فسألتها وأنا أتأمل ملامح وجهها الكالحة,
- من تريدين هنا؟؟
تأوهت لحظة وهي تمسح قطرات الماء عن وجهها ..ثم أخبرتني؛
أخبرتني عن مكتب المياه , وعن الإنذار الذي وصلها بقطع المياه عنها إذا لم تدفع المتأخرات, وعن ضيق ذات اليد التي تحاصرها....كانت كلماتها تهزني هزا... وتهدم أركان نفسي ركنا ركنا, كانت مخايل البؤس والشقاء مزروعة على ملامح هذه العجوز كأعتى ما يكون..وأفقت على صوتها وهي تطلب مني أن أرشدها إلى مكان مكتب المياه في المبنى, فقلت لها ,
-تفضلي يا "حاجه"
وقدتها دون كلمة أخرى نحو المصعد , ولم نكد نصل إلى الدور الذي فيه مكتب المياه, ولم أكد أخط خارج المصعد حتى توقفت قائلا
- ولكن المتب مغلق يا "حاجه"..
بدا عليها شعور بالصدمة..فقلت لها مواسيا..
-يبدو أننا تأخرنا قليلا
سألتني إذا كنت متأكدا من أنه المكتب المطلوب , فأجبتها ونحن نهبط بالمصعد مؤكدا ذلك, فقالت لي
-لا تؤاخذني يا بني ؛ لقد أتعبتك معي..
قالتها وانطلقت تتمتم وهي خارجة من المصعد , عن هذا الزمن الصعب الذي نعيش فيه , وعن الخمسة جنيهات التي اقترضتها من جارتها هذا الصباح لتأتي إلى هنا , وعن زوجها الذي مات وتركها وحيدة , وأولادها المسافرون الذين لا تراهم ولا يسألون عنها, والموت الذي لا يجيء قط ليريحها من هذه الدنيا المتعبة...
أخذت تبتعد وهي لازالت تردد هذه العبارات , غير عالمة التأثير الذي تحدثه في نفسي .. غير مدركة بأي مطرقة هدمت جدران عالمي ..غير شاعرة بمقدار الكراهية التي أحسست بها في هذه اللحظة نحو نفسي ونحو ذلك المجتمع البارد القاسي..المجتمع العاق الذي يفعل مثل ذلك بهذه العجوز وأمثالها...

اختفت المرأة خارج المبنى في هذه اللحظات, فانتفضت , وأدركت أنني تركتها - أنا الآخر - فجريت نحو الشارع الغارق في الأمطار وأنا أمسح من على وجهي قطرات المطر ...أو لعلها قطرات الدمع



تـــــــــــــــــــــــــــــــم



27-4-2006



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق